العرض والايداع

بقلم المحامي د. جوزيف الريشاني
استاذ محاضر في الجامعة اللبنانية

مقدمة

قد يكون من الطبيعي أن يمتنع أحد المدينين عن تسديد ما هو متوجب بذمته بسبب تعسّره ربما أو عن سوء نية. أمّا أن يكون المدين على إستعداد للدفع ومع ذلك يمتنع الدائن عن قبول تلقي الإيفاء فهذا أمر مستغرب وقد يلقي على عاتق المدين بعض الأعباء الإضافية كالفوائد والعطل والضرر عن التأخير. غير أن القانون تنبّه لهذا الأمر وأعطى المدين، عند رفض الدائن الإيفاء لسبب غير مبرّر، الحق بعرض الإيفاء والتخلّص من الدين وإبراء ذمته. وهذا ما يطلق عليه تسمية “العرض والإيداع”.
وفي التشريع اللبناني، وردت عملية العرض والإيداع في قانونين أولهما قانون الموجبات والعقود في المواد 294 إلى 298 وثانيهما قانون أصول المحاكمات المدنية في المواد 822 إلى 826. ومن الملاحظ أن احكام العرض والإيداع التي نص عليها كل من القانونين المذكورين تختلف في نواح بينما تتشابه في نواح أخرى. مع الإشارة إلى أن قانون أصول المحاكمات المدنية سبق صدوره قانون الموجبات والعقود الذي يعتبر النص العام بينما يشكل قانون أصول المحاكمات المدنية النص الخاص لموضوع العرض والإيداع وقد تمّ تنظيم إجراءاته في هذا القانون.
ولهذه الغاية، نصت المادة 822 من قانون أصول المحاكمات المدنية على أنه “للمدين الذي يريد إبراء ذمته إزاء دائنه أن يعرض على هذا الأخير بواسطة الكاتب العدل الشيء أو المبلغ الذي يعتبر نفسه مديناً به، وأن يودعه لدى الكاتب العدل نفسه أو، إذا كان مبلغاً من النقود، أن يودعه بواسطة وبإسم هذا الأخير في مصرف مقبول أو في صندوق الخزينة”. كما نصت المادة 294 من قانون الموجبات والعقود على “أن الدائن الذي يرفض لغير سبب مشروع الإيفاء المعروض عليه بشروط منطبقة على الأصول، يعّد من جرّاء ذلك في حالة التأخر منذ تحقق رفضه بصك رسمي. ومنذ ذلك الحين يصبح خطر هلاك الشيء أو تعيبه على عهدة هذا الدائن وينقطع حكم الفائدة عن الدين. وعلاوة على ذلك يحق عندئذ للمديون إيداع موضوع الموجب وتحميل الدائن عبء النفقة والمخاطر وتبرأ ذمته على هذا الوجه من الموجب”.
إستناداً إلى هذين النصين، من الواضح أن المشترع أعطى المدين وسيلة إضافية لإيفاء دينه على الرغم من معارضة الدائن. فإذا اراد ذلك، يتعين عليه، وفقا للمادة 822 أ.م.م.، أن يعرض على الدائن دفع الدين بواسطة الكاتب العدل في حين أغفلت المادة 294 م.ع. كيفية إجراء هذا العرض مما يعني أنه وبحسب هذه المادة الأخيرة تكون الأبواب مفتوحة أمام المدين لإختيار الطريقة التي يعرض فيها على الدائن إيفاء دينه. أما بالنسبة للإيداع، فالنصين لم يتفقا أيضاً. فبينما ألزمت المادة 822 أن يكون الإيداع لدى الكاتب العدل (على الأقل بالنسبة للنقود)، لم تأتي المادة 294 على ذكر طريقة ومكان الإيداع. إنطلاقاً من هنا، يتبيّن الفرق بين إجراءات قانون الموجبات والعقود وإجراءات قانون أصول المحاكمات المدنية المتعلقة بالعرض والايداع.
وسنحاول في هذا البحث الإضاءة على كل الجوانب المتعلقة باجراءات العرض والإيداع سواء أكانت واردة في قانون الموجبات والعقود أم في قانون أصول المحاكمات المدنية وذلك في فصلين بحيث نخصص الفصل الأول لاجراءات عملية العرض والايداع بحد ذاتها ويكون الفصل الثاني مخصصا” للاجراءات التي تلي العرض والإيداع.

الفصل الأول – اجراءات عملية العرض والإيداع

عندما يعقد المدين النية لوفاء ما هو متوجب في ذمته، قد يصطدم برفض الدائن قبول هذا الوفاء لأسباب لا مبرّر لها تتعلق احيانا بتوقيت الوفاء واحيانا اخرى بموضوع الموجب بعينه لناحية مطابقته مع الموضوع المتفق عليه. فيلجأ المدين، الذي يحاول جاهداً التخلص من الدين، إلى شتى الوسائل من أجل الوفاء بإلتزامه. ومن اجل ذلك، أعطاه القانون فرصة عرض الإيفاء على الدائن الممتنع وايداع ما يتوجب ايفاؤه. فنصت المادة 822 من قانون أصول المحاكمات المدنية على أنه “للمدين الذي يريد إبراء ذمته إزاء دائنه أن يعرض على هذا الأخير… وأن يودع…”. وتقابلها المادة 294 من قانون الموجبات والعقود التي لم تنص صراحة على العرض، كما فعلت بالنسبة للايداع عندما نصت على حق المدين بايداع موضوع الموجب، إنما وردت فيها عبارة “الإيفاء المعروض عليه” التي تدلّ بشكل لا لبس فيه على ان المدين قدم عرضاً بالإيفاء للدائن.
من يمعن النظر في هذه الاحكام الواردة في المادتين المذكورتين، يجد أنهما تسعيان لإيفاء الدائن حقه بطريقة غير مألوفة هدفها اعطاء الاشارة للدائن بأن مدينه على استعداد أن يوفي دينه من خلال اجراء عرض وايداع ما يتوجب عليه. وبالتالي يكون على المدين اتمام بعض الاجراءات المخصصة للعرض (الفقرة الاولى). كما يكون عليه اتمام اجراءات اخرى تتعلق بالايداع (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى – اجراءات العرض
كما قدمنا، إن المدين الذي يرغب بإيفاء دينه، بإمكانه اللجوء إلى عرض الإيفاء. ويمر هذا العرض بعدة مراحل لا بد من استعراضها (البند الاول) قبل تحديد شروط صحة هذا العرض (البند الثاني).

البند الاول – مراحل العرض
إختلفت المراحل التي يمر بها العرض بين قانوني الموجبات والعقود وأصول المحاكمات المدنية إنما وبما أن قانون الأصول هو النص الخاص المنظم لعملية عرض الإيفاء فإن هذا النص واجب التطبيق وسنستعرض مراحل عرض الايفاء التي نصّ عليها هذا القانون دون ان نغفل عن ذكر ما أتى عليه قانون الموجبات والعقود لهذه الجهة.
وبالفعل فقد نصت المادة 822 من قانون الأصول المدنية على أنه “للمدين الذي يريد إبراء ذمته إزاء دائنه أن يعرض على هذا الأخير بواسطة الكاتب العدل الشيء أو المبلغ الذي يعتبر نفسه مديناً به…”
أمام هذه الأحكام، يتضح أن العرض الذي قصدته المادة 822 المذكورة ما هو إلاّ العرض الذي يحصل أمام (بواسطة) الكاتب العدل. غير أنه يجب القول في هذا الإطار إلى انه من غير المتصوّر أن يكون المدين قد لجأ إلى الكاتب العدل ليعرض بواسطته الإيفاء دون أن يكون قد تلقى من الدائن ما يوحي بأنه يرفض قبول الإيفاء. بمعنى آخر، إن العرض المنصوص عليه في المادة 822 لا بدّ أن يكون قد سبقه عرض آخر مقدّم من المدين الى الدائن وقد رفضه هذا الاخير ما استدعى قيام المدين باللجوء إلى الكاتب العدل لتنظيم العرض الذي أشارت إليه المادة 822. وبالتالي يكون العرض الذي قدمه المدين أمام الكاتب العدل قد تدرّج من عرض أولي غير رسمي إلى عرض فعلي نظمته أحكام قانون أصول المحاكمات المدنية وهذا هو العرض الرسمي الذي يجب الاعتداد به دون غيره .
والجدير بالذكر ان ما أسميناه بالعرض الأولي الغير رسمي الذي سبق العرض المقصود بالمادة 822 هو العرض الذي قصدته المادة 294 من قانون الموجبات والعقود التي لم تشير إلى كيفية تنظيم العرض المقدّم من المدين وبالتالي لم تلزمه بشكليات معينة عليه القيام بها لصحة عرضه بل إكتفت بالإشارة إلى أن هناك عرضاً قدمه المدين إلى الدائن وقد رفضه هذا الأخير. ويفهم من ذلك أن المدين، بحسب المادة 294، يمكنه إختيار الطريقة التي يراها مناسبة لعرض الإيفاء على الدائن ويمكن أن يحصل ذلك بالطريقة الشفوية أو بمجرد كتاب أشبه بالإنذار يرسله المدين إلى الدائن ليعرض عليه دفع الدين حتى وإن لم يكن هذا الكتاب رسمياً أو منظماً امام موظف رسمي.
غير أنه وبالرغم من عدم فرض شكليات معينة في المادة 294، فإن ذلك لا يعني بأن ادعاء المدين برفض الدائن يجعل من الرفض المزعوم ثابتاً ويجب البناء عليه بل أوجبت هذه المادة أن يكون الرفض مثبتاً بصك رسمي لكي ينتج آثاره.
والصك الرسمي المشار إليه قد يكون صادراً عن الدائن بعد أن خاطبه المدين إذ قد يعمد الدائن إلى الرّد على المدين بموجب كتاب ينظّمه لدى الكاتب
العدل أو يرسله إليه بالبريد المضمون. أمّا إذا لم يتحرك الدائن فإنه يتوجب على المدين الإستحصال على صك رسمي يثبت تمنع الدائن عن قبول الإيفاء. ويكون أمام المدين في هذه الحالة اللجوء إلى الخيار الرسمي عبر إرسال كتاب مضمون أو بواسطة الكاتب العدل لينتزع من الدائن جواباً أو موقفاً من العرض الذي سبق وقدّمه إليه. وإذا كان المدين قد وضع نفسه على سكة الكاتب العدل فإنه يكون قد عاد وإستقل قطار المادة 822 أ.م.م. التي ألزمت المدين أن يعرض الإيفاء بواسطة الكاتب العدل ما يعني أن المدين في هذه الحالة يكون قد نفّذ ما نصت المادة 822 عليه والمتمثّل بالعرض المنظّم لدى الكاتب العدل مع ما ينتجه هذا العرض من آثار. أما في الحالة التي يختار فيها المدين تنظيم كتاب مضمون مرسل بالبريد فإنه يكون عليه إنتظار جواب الدائن. وفي كلا الحالتين، إن جواب الدائن الصريح بالرفض يشكل صكاً رسمياً بالمعنى المقصود في المادة 294 موجبات وعقود. أما إذا إلتزم الدائن الصمت فإن سكوته يؤدي إلى إعتبار كتاب المدين صكاً رسمياً وبذلك تكون أحكام المادة 294 م.ع. قد تحققت.
وقد تبدو أحكام قانون أصول المحاكمات المدنية مكمّلة لأحكام قانون الموجبات والعقود لناحية العرض المقدّم من المدين خصوصاً وأن قانون الموجبات والعقود لم ينص صراحة على عملية عرض فعلي كما فعلت المادة 822 أ.م.م.. لذلك تكون معاملة العرض لدى الكاتب العدل واجبة وفقاً لقانون أصول المحاكمات المدنية الذي جاء لينظم كل اجراءات العرض. وبالتالي يصبح هذا القانون هو النص الخاص بالمقارنة مع قانون الموجبات والعقود الذي لم يتضمن التفاصيل الكافية حول كيفية إجراء معاملة العرض. ويمكن اذا” القول أن أحكام المادة 822 وما يليها من قانون أصول المحاكمات المدنية هي الواجبة التطبيق بينما أحكام المادة 294 م.ع. وما يليها تطبق عند غياب أي نص في قانون الأصول المدنية.
وإذا كان ما سبق الحديث عنه يشكل المراحل التي يمر بها العرض، فإنه يصبح لزاما” التطرق الى شروط العرض التي يجب ان تتوافر كي يكون هذا العرض صحيحاً ويعتدّ به وينتج أثاره القانونية.

البند الثاني – شروط صحة العرض
كي يكون العرض صحيحاً، لا بد من توافر عدة شروط. هذه الشروط بعضها مستمد من النصوص التي تعرضت لعملية العرض أما البعض الأخر فهو يندرج ضمن إطار الشروط العامة التي يجب توافرها في الإيفاء

أ – رفض الدائن للعرض الأولي المقدم من المدين: ذكرنا سابقاً أنه من غير المنطقي أن يتقدم المدين من الكاتب العدل لتنظيم عرض يقدمه للدائن دون أن يكون قد عرض مسبقا عليه إيفاء الدين. لهذا السبب بات من الضروري القول أن العرض المنظم بواسطة الكاتب العدل سبقه عرض أخر أسميناه بالعرض الأولي الذي قد يكون شفويًا أو بأي طريقة أخرى تدل على ان المدين يرغب بالإيفاء. فإذا قَبِل الدائن هذا العرض، تكون رغبة المدين قد تحققت وعليه إيفاء الدين. أما إذا رفض الدائن العرض الأولي، فلا يمكن للمدين القول ان الدائن كان يرفض الايفاء الذي كان يعرضه عليه إذ ان المادة 822 من قانون اصول المحاكمات المدنية حددت الوسيلة المتاحة للمدين الذي يريد ابراء ذمته ازاء دائنه وهي طريقة العرض والايداع الفعلي التي ترفع عنه مسؤولية التأخيرعن الايفاء . فعليه اذا” اللجوء إلى الكاتب العدل لتنظيم عرض فعلي يقدمه للدائن.
ب -يجب أن يكون العرض الفعلي منظم لدى الكاتب العدل: أوجبت المادة 822 أ.م.م. أن يكون عرض المدين على دائنه للمبلغ أو للشيء منظمًا بواسطة الكاتب العدل الذي عليه، وبحسب الفقرة الثالثة من هذه المادة، أن ينظم محضرًا يتضمن تعيين الشيء المعروض ومكانه . ولا شك أن الغاية من هذا المحضر هي بالدرجة الأولى بيان وصف الشيء الذي يعرضه المدين وصفًا دقيقًا وإذا كان من النقود فيصفها كمًا ونوعًا وعملةً . إضافة إلى أن المحضر يضفي الصفة الرسمية على العرض الذي سيتبلغه الدائن دون إبطاء ليتمكن بعدها من إتخاذ موقف من العرض بناءًا على المحضر الذي يتضمن كل مواصفات الشيء المعروض ويقارنها مع الشيء المتوجب فعليًا بذمة المدين. فلا يسع المدين تقديم عرض شفهي الى الدائن معتبرا ان ذلك كافيا لترتيب النتائج القانونية بل لا بد من ان يرد العرض رسميا وفقا للقانون الذي يوجب ان يكون العرض منظما لدى الكاتب العدل من اجل ترتيب النتائج التي نصت عليها احكام القانون . مع الإشارة إلى أن إغفال تنظيم المحضر يعرّض العرض للبطلان.
ج – يجب صدور العرض عن شخص يتمتع بالأهلية اللازمة للوفاء: يعتبر عرض الوفاء من التصرفات القانونية التي يجب أن يكون للمتصرف الأهلية القانونية لإتمامها. فالشخص الذي يقوم بالعرض الفعلي عليه أن يكون راشدً وأهليته كاملة. إضافةً إلى ذلك، قد لا يكون المدين هو نفسه العارض بل يكون شخص آخر ولكن ذو مصلحة بتنظيمه كالكفيل مثلًا الذي يكون من مصلحته أن يقدم عرضًا لوفاء الدين عوضًا عن المدين الأصلي أو كالمالك الجديد لعقار وارد عليه تأمين عقاري فيكون من الطبيعي أن يسارع ويقدم عرضًا للدائن لإيفاء دينه خشية من ملاحقة العقار.
د – يجب أن يكون العرض غير مقترن بشرط أو أجل: إن الموجب الذي يعرضه المدين على الدائن يجب أن يكون مطابقًا مع الموجب الذي يترتب عليه وفقًا للإتفاق المعقود بينهما بمعنى أنه لا يمكن للمدين أن يتقدم بعرض يؤدي فيه أقل مما يتوجب عليه وإذا فعل فإن الرفض سيكون جواب الدائن. وانطلاقًا من ذلك، على العرض الذي يقدمه المدين للدائن أن يتضمن نفس الشروط التي كانت في أساس تعاقدهما . فلا يجوز مثلًا للمدين أن يعرض على الدائن إيفاء جزء كبير من الدين لقاء مسامحته بالجزء الباقي.
وكما أن العرض يجب أن يخلو من الشروط، كذلك يجب أن يكون هذا العرض خاليًا من أي أجلٍ بالدفع. بعبارة أخرى، إن الدين الذي يعرض المدين وفاؤه يجب أن يكون مستحقًا وبالتالي من غير المقبول أن يتضمن العرض تحديد تاريخ معين لاحق لسداد هذا الدين. فالعرض يجب أن يكون خاليًا من أي شروط ترهق الدائن ولا توصله إلى حقه في الميعاد المتفق عليه مع المدين. فأي شرط يتضمن تحديد أجل أو يسعى من خلاله المدين الى كسب المزيد من الوقت يكون مردودًا ولا يعتد به ولا ينتج أي أثر. غير انه اذا ورد في العرض بعض الشروط والتحفظات التي من شأنها المحافظة على حقوق المدين ودون ان يؤدي ذلك الى الاخلال بحقوق الدائن، فإن الاجتهاد اعتبر هذه الشروط صحيحة والعرض قائما وقانونيا طالما انه ليس هناك اي مس بحقوق الدائن .
ه – يجب أن يكون عرض الوفاء لشيء أو لمبلغ مستحق: وهذا الشرط هو تطبيق خالص للمادتين 110 و 303 من قانون الموجبات والعقود بحيث تنص الأول على أنه “إذا كان الأجل موضوعًا لمصلحة الدائن أو لمصلحة الفريقين المشتركة فهو يمنع المديون من التنفيذ الإختياري للموجب”. بينما تنص الثانية على أنه “لا يجوز إجبار الدائن على قبول الإيفاء قبل الأجل إلا إذا كان موضوعًا لمصلحة المديون وحده”.
إلا أن هذين النصين يستدعيان بعض التوضيح. فإذا كان الأجل موضوعًا لمصلحة الدائن وحده، فإنه لا يمكن للمدين أن يقدم عرضًا إذا لم يكن موعد الوفاء قد استحق ما لم يتنازل الدائن عن المهلة الموضوعة لصالحه. وقد يكون تنازل الدائن عن المهلة صريحا او ضمنيا. فالتنازل الصريح عن المهلة يكون بايراد بند في العقد يسمح للمدين بالايفاء ساعة يشاء حتى قبل استحقاق الأجل المتفق عليه. اما التنازل الضمني فيكون بقبول الدائن الايفاء الذي يجريه المدين دون اية معارضة. أما إذا كان الأجل موضوعًا لصالح الفريقين فإننا نعود الى الحالة الأولى التي تستدعي تنازل الدائن كي يستطيع المدين التقدم بعرض الإيفاء. وهذه الحالة هي حالة عقد القرض حيث تكون المهلة موضوعة من جهة لمصلحة المدين الذي يكون بإستطاعته الإستفادة من هذه المهلة لتحسين وضعه المالي ومن جهة أخرى تكون المهلة موضوعة لمصلحة الدائن كي يستفيد من الفوائد التي يضعها على المبلغ الأساسي. فعندما يقدم المدين عرضًا فإنه يكون قد تنازل ضمنيًا عن مهلته بينما لا يلزم الدائن على القبول طالما أن مصلحته تقتضي ذلك ما لم يكن قد تنازل صراحة او ضمنا عن هذه المهلة الموضوعة لصالحه كما اشرنا. وهذه الحالة الاخيرة نراها غالبا في عقود القرض والتي تتضمن عادة بندا يسمح للمدين بايفاء الدين – كل الدين المتبقي – قبل حلول اجله. أما إذا كانت المهلة هي لصالح المدين فإن له كامل الحق في تقديم عرض للدائن ويكون هذا الأخير ملزمًا بالقبول. ما يعني بالتالي انه في كل الاحوال يجب ان يكون العرض لدين قد اصبح مستحق الاداء . وقد أضافت المادة 303 المذكورة حالة غياب الأجل. فعندها نعود لتطبيق ما أشرنا إليه أخيرا إذ يمكن للمدين عندئذٍ تنفيذ موجبه وطلب هذا التنفيذ بلا تأخير.
وإلى جانب الإستحقاق، قد يكون الوفاء معلقا” على شرط. ففي هذه الحالة يمنع على المدين تقديم أي عرض للدائن طالما أن الشرط لم يتحقق بعد. وهذا ما أشارت إليه المادة 93 من قانون الموجبات والعقود بقولها “أن الموجب المعقود على شرط التعليق لا يقبل التنفيذ الإجباري ولا التنفيذ الإختياري ولا يمر عليه الزمن ما دام الشرط معلّقًا”. أما إذا كان الدين مشروطًا بشرط إلغاء كأن يلغى الدين في حال حدث أمر معين، فإنه لا يمكن منع المدين من عرض الوفاء طالما أن نيته تتجه نحو ذلك. ولكن إذا ما تحقق الشرط فإنه يكون على الدائن، حسب المادة 97 من قانون الموجبات والعقود، أن يرد ما استوفاه من المدين.
و – ان يكون المعروض مطابقًا لموضوع موجب المدين: فالمدين الذي يلتزم بموجب معين عليه أن يوفي ما التزم به. فإذا كان الموجب مبلغًا من النقود فإن على المدين أن يعرض كامل المبلغ المستحق الذي يضم عادة المبلغ المستدان مع الفوائد المستحقة عنه وليس جزءا منه والا اعتبر ايفاءا جزئيا . وتطرح عادة هذه الحالة عندما يجري المدين عرضا فعليا بمبلغ قد يكون اقل من المبلغ المتوجب عليه بسبب ترتب فوائد بحيث لا يستطيع المدين تقدير قيمة هذه الفوائد الحقيقية. ففي هذه الحالة يمكن للمدين ان يجري عملية عرض وايداع بمبلغ معين يعتبر نفسه مدينا به وانه يوفيه كاملا مع اللواحق ويمكنه ان يضيف استطرادا انه اذا لم يكفي هذا المبلغ لسداد كامل الدين فإنه يكون عن الجزء من الدين الذي يوازي المبلغ المعروض. غير ان ذلك يبقى مشروطا بضرورة ان يكون المدين حسن نية ولا يعلم فعلا كمية الفوائد المترتبة عليه. ومع توفر هذه الشروط يكون العرض المقدم صحيحا ولا يمكن بعد ذلك للدائن ان يرفض استيفاء المبلغ بحجة ان المبلغ المعروض اقل من المتوجب. ويؤدي ذلك الى اطفاء الجزء من الدين الذي يوازي المبلغ الذي عرضه المدين. اما اذا كان معلوما كمية الفوائد المتوجبة بذمة المدين فإنه لا مفر من ضرورة ان يكون العرض شاملا كامل المبلغ مع هذه الفوائد التي يعلمها المدين مسبقا والا كان العرض معرضا للطعن به. ويمكن أن يكون ايضًا مشترطًا دفع النفقات المترتبة والتي يكون المدين قد التزم بدفعها. ففي هذه الحالة، على المدين ان يعرض المبلغ الاساسي مع النفقات المتفق عليها ولا يجبر وبالتالي الدائن على قبول ايفاءٍ لا يشمل كل المبالغ المترتبة كون المدين يعلم منذ البدء كمية الدين المتوجب .
وإذا كان من واجب المدين تقديم عرض بكامل المبالغ المترتبة، فإنه يقع عليه أيضًا موجب عرض نفس الشيء الذي التزم به. فإذا كان المبلغ المستدان بالعملة الأجنبية فإنه يقع عليه عبء تقديم عرض بالعملة المتفق عليها في العقد. إلا أنه قد يصار الى تجاوز هذه الأحكام عبر تطبيق نصوص قانون النقد والتسليف التي تعطي العملة الوطنية قوة إبرائية وتجرّم من لا يقبل بهذه العملة. وبهذه الطريقة يمكن القول أنه على المدين تقديم عرض بنفس عملة الدين أو بما يعادلها بالعملة المحلية .
وفي هذا الإطار تطرح مسألة ما إذا كان يمكن للمدين أن يعرض الوفاء بموجب شيك. في الواقع ان المادة 822 أ.م.م. لم تتطرق الى كيفية الدفع ولم تلزم المدين بايداع المبلغ نقدا. فالشيك يعتبر دائما وسيلة ايفاء بالرغم من انه لا يعتبر كافٍ بحد ذاته للقول بأن الدين قد دفع كون الأموال لا تصبح بحوزة الدائن إلا بعد عرض الشيك على المصرف وقبضه المبلغ المعين فيه . وعليه فقد اعتبر الاجتهاد في مرحلة اولى بأنه من الجائز ان يتم العرض والايداع بموجب شيك ولو ان استلام الاموال يتم في وقت لاحق معتبرا ان نص المادة 822 أ.م.م. لا تتعلق بالنظام العام ولا تفرض ان يكون الدفع نقدا بل اجازت وجعلت الايداع بموجب شيك صحيحا خصوصا اذا قبله الدائن ولم يعترض عليه . الا ان الاجتهاد تراجع عن موقفه واعتبر ان الشيك وان كان يشكل وسيلة دفع وايفاء الا انه لا يساوي الايداع النقدي الذي يبرئ ذمة المدين ما لم يكن مقترناً بما يدل على ان المؤونة محجوزة في المصرف وموجودة وبالتالي ان ايداع شيك مسحوب لأمر الدائن ودون ان يثبت وجود المؤونة التي من شأنها عند قبض الشيك بأن تشكل ابراءً للذمة، لا يصح اعتباره ايداعاً فعلياً بمفهوم المادة 822 أ.م.م. بل ان الايفاء يكون تاماً بتسديد المبلغ نقداً للمسحوب لأمره لدى عرض الشيك على المصرف .غير أن الأمر يختلف عندما يكون الشيك مصرفيًا. ففي هذه الحالة تخرج الأموال موضوع الشيك من يد المدين وتصبح محجوزة لدى المصرف المسحوب عليه لصالح المستفيد (الدائن في هذه الحالة) ويعتبر كأنه استلم الأموال .
ز – يجب ان يكون العرض مقدما في المكان المتفق عليه: لكي يكون العرض المقدم من المدين صحيحا، لا بد أن يكون حاصلًا في المكان الذي اتفق عليه الفريقان في العقد. أما إذا لم يكن هناك أي إتفاق، صريح ام ضمني، حول هذا المكان، فإنه يصار الى عرض الوفاء في مكان إقامة المدين تطبيقًا للفقرة الثانية من المادة 302 م.ع ويسلّم الشيء المعروض الى الكاتب العدل أكان موضوع الموجب مبلغًا أو شيئا ممكن نقله. أما إذا كان الشيء غير ممكن نقله وتسليمه الى الكاتب العدل، فإن العرض يجب أن يكون في المكان حيث كان الشيء موجودًا عند إنشاء العقد حسب الفقرة الثالثة من المادة 302 المذكورة ويعطى الكاتب العدل عندئذ التفويض اللازم لتسليمه.
ك – يجب ان يكون العرض مقدما ضمن المهلة الممنوحة للمدين لايفاء دينه: وهذا الشرط منطقي إذ انه كما يكون على المدين ان يوفي في الاجل المحدد له ، عليه ايضا، اذا رفض الدائن الايفاء، ان يقدم على اجراء عملية العرض والايداع خلال هذا الأجل دون ابطاء وإلا اصبح متخلفا عن تنفيذ موجباته. فعندما يعرض المدين على دائنه تسديد الدين في الاوقات المحددة له فإنه بذلك يكون قد تقيد بالمهل المعطاة له للتسديد ويطمح عبر هذه الخطوة لإبراء ذمته. كذلك يجب ان يكون الامر بالنسبة الى العرض والايداع. فعندما يرفض الدائن الايفاء، فإن امام المدين فرصة اضافية للتعبير عن حسن نيته تجاه دائنه عبر اجراء عرض وايداع للشيء المستحق. ومن الطبيعي ان يحصل هذا الامر ضمن المهل المعطاة للمدين كونه اراد التسديد عند الاستحقاق ولكنه اصطدم برفض الدائن. فعليه اذن ان يسارع الى التسديد عبر العرض والايداع الذي من شأنه ان يبرء ذمته. وقد قضي بأنه لاعتبار العرض والايداع مبرئا لذمة المدين يجب ان يتم فيه العرض والايداع ضمن المهلة الممنوحة للمدين لايفاء دينه للدائن في حال تحديد مهلة للايفاء .

ل – يجب إبلاغ الدائن العرض المقدم من المدين: ويعتبر هذا الشرط من متممات الشرط الذي يوجب تنظيم عرض لدى الكاتب العدل إذ ذكرنا سابقًا أثناء شرحنا لهذا الشرط أنه على الكاتب العدل تنظيم محضرًا لإثبات العرض يتضمن تعيين مواصفات الشيء المعروض بشكل واضح لا لبس فيه. وبعد ذلك يصار الى إبلاغ الدائن هذا المحضر بدون ابطاء كما اشارت الفقرة الثالثة من المادة 822 أ.م.م. للوقوف على العرض المقدم من المدين. والتبليغ الحاصل هنا لا يختلف عن التبليغات التي يجب ان تحصل وفقًا للأصول المرعية الإجراء إذ أن أي مخالفة لهذه الأصول تضع العرض في دائرة التعرض للبطلان.

الفقرة الثانية – اجراءات الايداع
بعد ان ينظم المدين عرضه، لا بد له من ايداع الشيء المستحق. غير ان هذا الشيء قد يكون نقودا وقد يكون من غير النقود. وسنعرض حالة ايداع النقود مع شروط صحة ايداعها (البند الاول) قبل عرض حالة ايداع الاشياء مع شروط صحة ايداعها (البند الثاني).

البند الاول – ايداع النقود
نصت المادة 822 أ.م.م. على انه “للمدين … اذا كان مبلغا من النقود ان يودعه بواسطة وباسم هذا الاخير(الكاتب العدل) في مصرف مقبول او في صندوق الخزينة”.
لا شك بأنه عندما نتحدث عن دائن ومدين يخطر في بالنا فورا المبالغ المالية التي تكون مترتبة بذمة المدين. وقد يرغب هذا الاخير بوفاء دينه فيلجأ الى الكاتب العدل من اجل هذه الغاية ليعرض على الدائن ايفاء الدين. وقد وضعت المادة 822 المذكورة شرطا اساسيا عندما يكون موضوع موجب المدين مبلغا من النقود وهذا الشرط يتمثل بايداع المبلغ في المصرف او في صندوق الخزينة وهذا على عكس الاشياء التي سمحت المادة 822 بايداعها لدى الكاتب العدل. وهذا الشرط هو الزاميا أذ ان الكاتب العدل والمدين لا يملكان الخيار في ذلك بل يجب عليهما ايداع المبلغ بواسطة الكاتب العدل وباسمه في المصرف او في صندوق الخزينة وذلك تحت طائلة ابطال معاملة الايداع التي يكون للدائن المصلحة التامة بالتمسك بهذا البطلان. وقد تكون الحكمة من هذه الطريقة في الايداع هي ابعاد الكاتب العدل عن تبعة ابقاء الاموال النقدية بحوزته مما يرفع عنه اية مساءلة محتملة.

البند الثاني – ايداع الاشياء
ان النقود ليست هي الوحيدة التي يمكن ان تكون موضوع موجب المدين، انما الاشياء ايضا قد تكون تشكل محور هذا الموجب. واذا كانت النقود لا تثير اي اشكالية لناحية ايداعها، فإن ايداع الاشياء يلزمها بعض التعمق. ومن هذا المنطلق، إذا اراد المدين ابراء ذمته تجاه دائنه، فإنه عليه، بالاضافة الى تقديم عرض للدائن، ان يودع الشيء المتوجب في ذمته. ويختلف ايداع الشيء تبعا لما اذا كان قابلا للنقل ام لا.

أ – ايداع الشيء القابل للنقل: ان ايداع الشيء القابل للنقل كان محور المادتين 822 و823 من قانون اصول المحاكمات المدنية. فبينما نصت المادة 822 على ان المدين يعرض الشيء بواسطة الكاتب العدل ويودعه لدى نفس هذا الكاتب العدل، جاءت المادة 823 لتنص على انه اذا رفض الدائن العرض وكان الشيء المعروض في غير حيازة الكاتب العدل وكان ممكنا نقله جاز للمدين ان يطلب من قاضي الامور المستعجلة خلال يومين من تاريخ تبلغه رفض الدائن الترخيص بايداعه في المكان الذي يعينه القاضي.
انطلاقا من هذين النصين، يجب التفريق بين حالتين. فالحالة الاولى تتعلق بالشيء المودع لدى الكاتب العدل اما الحالة الثانية فهي المتعلقة بالشيء الممكن نقله ولكنه في غير مودع لدى الكاتب العدل.
بالنسبة للحالة الاولى فهي تشمل اجمالا الاشياء التي يمكن نقلها بسهولة من مكان الى آخر وبالتالي يمكن ايداعها لدى الكاتب العدل كأن تكون مثلا لوحة رسمها المدين الرسام او تمثالا صغيرا صنعه المدين النحات. فيعمد الكاتب العدل عند ذلك الى تنظيم محضر يشمل في آن واحد العرض والايداع الذي يرد على هذا الشيء. ووفقا للفقرة الثالثة من المادة 822، على الكاتب العدل ان يذكر في المحضر كل مواصفات الشيء المعروض والمودع لديه تحت طائلة تعريض العرض والايداع للبطلان.
واذا كان الايداع في الحالة الاولى يتم مع العرض لدى الكاتب العدل، فإن الايداع في الحالة الثانية يأتي في وقت لاحق له. بعبارة أخرى، إذا كان الشيء لا يمكن نقله لايداعه لدى الكاتب العدل (انما ممكن نقله الى مكان آخر) كالسيارة مثلًا أو بضاعة معينة كالألبسة أو ما شابه ذلك، فإن المادة 823 أجازت للمدين أن يقدم طلبًا الى قاضي الأمور المستعجلة يطلب فيه تحديد مكان لإيداع هذا الشيء فيه. ولسلوك هذا الطريق، وضعت المادة 823 شرطين اساسيين: اولا انتظار رفض الدائن للعرض المقدم من المدين. وفي هذا الاطار يمكن القول بأن الايداع جاء نتيجة لهذا الرفض. ما يعني ان عرض الشيء في هذه الحالة يتم دون ايداعه حتى اذا ما رفض الدائن هذا العرض فإن الشرط الثاني يكون بتوجه المدين الى قاضي الامور المستعجلة في مهلة يومين تبدأ من تاريخ تبلغ هذا الرفض للترخيص بايداع الشيء في مكان يعينه القاضي. مع الاشارة الى انه وفقا لأحكام الفقرة الثانية من المادة 822 أ.م.م.، وعندما لا يمكن نقل الشيء لايداعه لدى الكاتب العدل، فإن العرض الذي يقدمه الدائن الى المدين يكون متضمنا تسليمه هذا الشيء في مكان يقترحه المدين – يكون عادة المكان حيث يوجد الشيء – ويكون على الكاتب العدل ذكر مواصفاته في المحضر الذي ينظمه على إثر تنظيم العرض ويعطى عندئذ الكاتب العدل التفويض اللازم لتسليمه. ما يشير الى ان الكاتب العدل ينتقل الى مكان الشيء لمعاينته وتدوين مواصفاته في المحضر. ومن هنا يمكن القول بأن هذا الايداع الذي يرخصه القاضي جاء بعد ايداع اول في المكان الذي اختاره المدين والذي كما قلنا هو المكان حيث يوجد الشيء. غير أن المدين ليس ملزمًا بكل هذه الإجراءات بدليل ورود كلمة “جاز” في الفقرة الثالثة من المادة 823 التي تجعل من المدين مخيرًا بين تقديم الطلب لقاضي الأمور المستعجلة أو العدول عن ذلك.

ب – ايداع الشيء الغير قابل للنقل بالاصل: هذه الحالة تشبه الحالة الاخيرة التي تكلمنا عنها بأنهما تتعلقان بشيء لا يمكن نقله وايداعه لدى الكاتب. الا انهما يختلفان بكون الشيء في الحالة الاخيرة يمكن نقله الى مكان انما ليس عند الكاتب العدل بينما في حالتنا الآن لا يمكن نقل الشيء اساسا من مكانه نظرًا لطبيعته او بسبب حجمه كالمنزل او البناء. وقد نصت الفقرة الثالثة من المادة 823 على ذلك بقولها انه اذا كان الشيء معدا للبقاء في مكانه اي لا يمكن نقله من مكان الى آخر، فإنه يجوز للمدين الطلب الى قاضى الامور المستعجلة لوضع هذا الشيء تحت الحراسة. وعلى غرار الشيء الذي يمكن نقله الى خارج دائرة الكاتب العدل، فأن هناك شرطين لا بد منهما لوضع الشيء تحت الحراسة: اولا يجب ان يرفض الدائن العرض الذي قدمه اليه المدين وثانيا ان يقدم الطلب في مهلة يومين من تاريخ تبلغه هذا الرفض. وفي هذه الحالة، عندما يتقدم المدين لتنظيم العرض، فإن الكاتب العدل يذكر ايضا في المحضر مواصفات الشيء المعروض بدقة ودون ابهام ما يعني انه على الكاتب العدل معاينة هذا الشيء في مكانه وذلك بهدف ذكر مواصفاته في المحضر. وعلى غرار الشيء الممكن نقله، فإن الفقرة الثالثة من المادة 823 أعطت ايضا الخيار للمدين بتقديم الطلب الى قاضي الامور المستعجلة أو الإعراض عنه.
ولا بد من الإشارة الى أن الفقرة الثالثة من المادة 823 أ.م.م. تلتقي مع أحكام الفقرة الثانية من المادة 294 م.ع. التي تشير الى أنه عندما يرفض الدائن عرض المدين فإنه يحق له إيداع الشيء في المكان الذي تعينه محكمة محل الايفاء. وهذا يعني أنه بعد أن يرفض الدائن العرض المقدم من المدين، فإن هذا الأخير يصبح من حقه إيداع الشيء الذي لم يكن قد أودعه عند تقديمه العرض. وإذا كانت المادتين في هذه الحالة تنصان على ان إيداع الشيء يحصل بعد تقديم العرض، إلا أن المادة 294 تختلف عن الفقرة الثالثة من المادة 823 بأن الأولى تشمل جميع الأشياء التي يعتبر المدين أنها مترتبة بذمته أكانت نقودًا أم أشياء يمكن نقلها من مكانها بينما المقصود بالفقرة الثالثة من المادة 823 أ.م.م هي فقط الأشياء (وليس النقود) التي لم يودعها المدين عند تقديم العرض.

الفصل الثاني- الاثار المترتبة على العرض والإيداع

بعد ان يكون المدين قد لجأ الى الكاتب العدل لتنظيم العرض الذي يرغب بتقديمه الى الدائن، وبعد ايداع الشيء او المبلغ المترتب بذمته والذي يرغب بايفائه للدائن، تبدأ الاجراءات التي تلي عملية العرض والايداع. وتتعدد هذه الاجراءات التي يكون البعض منها ملقى على عاتق المدين وعلى هذا الاخيراتخاذها بينما يكون ايضا على الدائن ان يتخذ البعض الآخر. غير انها وإن كانت ملقاة على عاتق الفريقين، فإن هذه الاجراءات تكون نتيجة للموقف الذي سيتخذه الدائن بشأن عملية العرض والايداع. فالدائن يملك احد الخيارين فإما أن يقبل العرض الذي تقدم به المدين وإما يرفضه ويرده الى مقدمه. وانطلاقا من هنا، سنبحث هذين الاثرين المتولدان عن موقف الدائن ضمن فقرتين حيث يشكل قبول الدائن محور الفقرة الاولى ويكون رفض الدائن محور الفقرة الثانية.

الفقرة الاولى – قبول الدائن عرض المدين
قد يكون الدائن مرنا تجاه مدينه ويعلن عن قبوله للعرض الذي قدمه له المدين. الا ان لهذا القبول مسار يجب سلوكه (البند الاول) قبل ان ينتج اثاره القانونية (البند الثاني).

البند الاول – مسار القبول: عندما يتبلغ الدائن العرض المقدم من المدين، لا بد لهذا الدائن ان يتخذ موقفا من هذا العرض فإما ان يقبله واما يرفض ما قدّم اليه. غير انه عندما يقدم المدين هذا العرض للدائن فإنه لم يفعل ذلك الا لكي يقبله هذا الأخير. وفي هذا الاطار، قد يكون جواب الدائن بالقبول سريعا ولكنه ايضا قد يتريث للتفكير جيدا بالعرض ومن ثم يصدر عنه القبول. وبعبارة اخرى، عندما يتبلغ الدائن عرض المدين، فإن قبوله يتظهر بصورتين نصت عليهما الفقرة الاولى من المادة 823 أ.م.م. اذ نصت على انه “على الدائن ان يتخذ موقفا بقبول العرض او رفضه سواء بتصريح يدونه على وثيقة تبليغه او بتصريح يقدمه الى الكاتب العدل خلال ثمان واربعين ساعة على الاكثر من تاريخ تبليغه”. ما يعني ان الدائن اذا اراد القبول، فإنه يختار ما بين القبول الفوري وبين القبول اللاحق. فالقبول الفوري يكون بتدوين ما يشير الى ذلك صراحة على وثيقة التبليغ المتضمنة العرض المقدم من المدين التي تلقاها على إثر تنظيم العرض. وفي هذه الحالة تتجلى صورة القبول بقبض الدائن للمبلع الذي اودعه المدين. اما القبول اللاحق فإنه، وكما تدل عليه تسميته، يأتي في وقت لاحق على التبليغ المتضمن العرض. الا ان الدائن في هذه الحالة لا يملك ما يشاء من الوقت إذ ان الفقرة الاولى من المادة 823 قد فرضت عليه اصدار القبول خلال مدة اقصاها ثمانية واربعين ساعة تلي تبليغه وذلك بموجب تصريح يقدمه الى الكاتب العدل منظّم العرض.
واذا كان القبول الذي يصدر عن الدائن اكان على وثيقة التبليغ نفسها ام في تصريح لاحق يشكل جوابا صريحا من هذا الدائن، فإن القبول قد يأتي أيضا بصورة ضمنية كما لو توجه الدائن الى العقار الذي يشكل موضوع موجب المدين وبدأ بحراثته او كأن يتعاقد الدائن على الشيء الذي من المفترض ان يتسلمه من الدائن. غير ان القبول الضمني يجب ان يرد واضحا ولا التباس فيه وبطريقة واضحة تعبّر عن ان نية الدائن اتجهت نحو القبول. وسواء أكان القبول صريحا ام ضمنيا، فإن على الكاتب العدل أن يسلم الدائن الشيء المودع لديه أو في المكان الموجود فيه إذا كان لا يمكن نقله وتسليمه اليه واذا كان موضوع الموجب نقودا فإن على المدين استلام المبلغ الذي اودع بواسطة وبإسم الكاتب العدل في المصرف او في صندوق الخزينة.
واذا اراد الدائن قبول عرض المدين، فإن هذا القبول لا يمكن أن يأتي مشروطًا او مترافقا مع تحفظات حسب ما اشارت اليه الفقرة الاولى من المادة 823 بقولها انه “لا يجوز تعليق القبول على شرط او تحفظ”. فعندما يقبل الدائن العرض فإما ان يقبله كما اتى من المدين وإما أن يرده كاملًا دون اضافة او حذف اي من عناصره . فلا يجوز للدائن وضع أي شرط أو تحفظ والا لا يعد هذا الجواب في مصاف القبول الذي ينهي حالة الدين. غير انه يجدر القول بأن ليس كل تحفظ من شأنه ان يعتبر رفضا. فقد يعمد الدائن عند تلقيه العرض الى قبض المبالغ المعروضة عليه ويدون في نفس الوقت عبارة “بتحفظ”. ففي هذه الحالة يكون التحفظ خاليا من اي مفعول قانوني كون الدائن قد قبض المبالغ وبالتالي يعتبر ذلك قبولا صحيحا منتجا لكافة اثاره فلا يستطيع الدائن القبول والتحفظ في آن واحد. فلو كان الدائن يريد فعلا الامتناع عن القبض لرفض العرض وتقدم بدعوى اثبات بطلان العرض والايداع .

البند الثاني – الاثار المترتبة على قبول الدائن : نصت الفقرة الثانية من المادة 823 أ.م.م. على انه “اذا صرح الدائن بقبول العرض كان للكاتب العدل ان يسلمه الشيء او المبلغ المودع لديه او باسمه او الموجود في المكان المعين في العرض. فاذا لم يطالب باستلامه تحمل مخاطر هلاكه وبرئت ذمة المدين من الدين”.
من الواضح ان احكام هذه الفقرة تنص على أثر مهم جدا انما يتعلق فقط بالدائن دون المدين. فالدائن بعد ان يعبّر عن ارادته بالقبول، يجد نفسه في مكان يستطيع فيه استيفاء حقه سواء بتسلمه الشيء موضوع الموجب من الكاتب العدل او بتسلمه المبلغ الذي اودع في المصرف او في صندوق الخزينة. ويعني ذلك ان الدائن يكون قد خرج منتصرًا على حساب المدين الذي لم يأتي النص على ذكر أية فائدة له جناها من عملية العرض والإيداع. فجلّ ما يحصده المدين هو ما ذكرته الفقرة الثانية من المادة 823 أ.م.م وهو إبراء ذمته في حال لم يعمد الدائن الى إستلام الشيء أو المبلغ بعد قبوله. وحتى وإن قانون الموجبات والعقود لم يذكر نتائج قبول الدائن بل اكتفى بإيراد موضوع واحد هو موضوع رفض الدائن وما يترتب على هذا الرفض.
غير أنه ما هو الاهم بالنسبة للمدين، عند قبول الدائن للعرض المقدم اليه ، هو براءة ذمته من الدين. فحتى وإن أغفلت النصوص إبراء ذمة المدين عند قبول الدائن بالعرض، فإن المبادئ العامة والمنطق القانوني يفترض ذلك. إضافة الى أن المدين لم يسعى الى تقديم العرض للدائن إلا ليحصل على براءة ذمته من الدين المتوجب عليه بعد أن يعبّر الدائن عن إرادته بالقبول. وهذا ما يتبدى من عبارات المادة 822 أ.م.م التي تورد أن “للمدين الذي يريد إبراء ذمته إزاء دائنه أن يعرض على هذا الأخير …”. فالسؤال الذي يُطرح هنا “ماذا لو قبل الدائن هذا العرض” فالجواب الاكيد والوحيد على هذا السؤال يكمن في هذه العبارات التي أوردتها المادة 822 عندما قالت “الذي يريد إبراء ذمته” ولا شك أن ذلك يعني أنه فور قبول الدائن تتحقق رغبة المدين في إبراء ذمته وهي، كما قلنا، نتيجة طبيعية مترتبة على قبول الدائن لعرض المدين الذي يسعى الى إيفاء دينه والتخلص منه .
أضف الى ذلك، فإن المادة 297 م.ع التي نصت على أنه “للمديون أن يسترد الشيء المودع ما دام الدائن لم يصرح بقبوله الإيداع” تشير بشكل واضح الى السماح للمدين بسحب عرضه ما دام الدائن لم يقبل. وقد قضي بأنه يبقى للمدين في تلك الاثناء، الحق في استرداد المبلغ المودع طالما لم يقبله الدائن . واذا قام المدين وتراجع عن عرضه فإن ذلك يجعل الايفاء غير حاصل وبالتالي يعتبر ابراء ذمة المديون غير متحقق ويزال بذلك اي مفعول ايفائي لهذا الايداع ويعيد الحال بين الدائن والمدين الى ما كانت عليه قبل حصوله .
ورجوع المدين عن عرضه يتم بإحدى الحالتين: إما يعمد الى استرداد المبلغ أو الشيء الذي أودعه وإما يعرض عن تقديم دعوى اثبات صحة العرض والايداع. فالحالة الاولى اشارت اليها المادة 297 من قانون الموجبات والعقود التي نصت على انه “للمديون أن يسترد الشيء المودع ما دام الدائن لم يصرّح بقبوله الإيداع. وفي هذه الحالة يعود الدين بجميع ملحقاته”. وتطبيقًا لهذا النص، فقد أتيح المجال للمدين، إذا ما أراد إنهاء عرضه، أن يسترد ما عرضه. بيد أن هذا الإسترداد مشروط بشرط أساسي يكمن في عدم صدور أي جواب ايجابي عن الدائن إزاء العرض المقدم له. وبالتالي طالما أن الدائن لم يعلن موقفه بعد من العرض فإن المدين له مطلق الحق في سحب عرضه وإسترداد ما كان قد أودعه .
أما الحالة الثانية التي يمكن معها للمدين إسترداد ما أودعه هي تلك التي يكون المدين فيها ملزم بإثبات صحة عرضه وإيداعه بموجب دعوى يقدمها للمحكمة المختصة إلا أنه يعود عن ذلك. فعند رفض الدائن العرض المقدم من المدين، وبدلًا من أن يتقدم هذا الأخير بدعوى لإثبات صحة عرضه وإيداعه خلال عشرة ايام من تاريخ تبلغه رفض الدائن وفقا للفقرة الاولى من المادة 824 أ.م.م.، فإنه يختار احد الامرين: فإما يترك هذه المهلة تنقضي وتسقط بالتالي الاثار المترتبة على العرض والايداع ويكون له ان يسترد ما يكون قد أودعه وإما يسترد ما اودعه حتى قبل انقضاء مهلة العشرة ايام المخصصة لدعوى اثبات صحة العرض والايداع شرط ان لا يكون الدائن قد اعرب عن قبوله لهذا العرض. وبذلك يكون قد سحب عرضه وأعاد الحال الى ما كانت عليه بينه وبين الدائن. اما عندما يقبل الدائن بالعرض فإنه يتعذّر على المدين سحب عرضه وإسترداد الشيء بعد القبول وبالتالي يصبح هذا الشيء ملكًا للدائن ما يفيد بأن المدين قد تخلص من الدين وبالتالي برّئت ذمته إزاء دائنه.
وما دام أن ذمة المدين تصبح بريئة عند قبول الدائن، فلا بدّ وأن تكون هذه البراءة من تاريخ تقديم العرض والإيداع أو على الأقل من تاريخ أخر إجراء حصل في هذه العملية كون الإيداع ممكن أن يحصل بعد اللجوء الى قاضي الامور المستعجلة وفقا للفقرة الثالثة من المادة 823 من قانون اصول المحاكمات المدنية. فلا هذا القانون الاخير ولا قانون الموجبات والعقود نصّا على التاريخ الذي تصبح معه ذمة المدين بريئة إنما ايضا لا يمكن التسليم بتاريخ قبول الدائن إذ إن هذا الأخير قد يستفيد من المهل ليبقي المدين تحت ثقل الدين الذي عرض إيفاؤه. ولهذه الغاية يمكن القول أن ذمة المدين تبرأ منذ التاريخ الذي يتقدم به المدين بعرضه ويكون قد أودع الشيء المستحق. فأثر القبول يعود إذا” بصورة رجعية الى تاريخ العرض والإيداع مهما تأخر قبول الدائن.
وغني عن القول أن إبراء ذمة المدين من تاريخ العرض والإيداع لا يشمل فقط الدين الأساسي إنما أيضًا الفوائد والنفقات المترتبة على هذا الدين إذ لا يمكن إبراء ذمة المدين من الدين دون تخليصه من أعبائه. كما أن إسقاط الأعباء لا ينحصر فقط بالفوائد والنفقات بل أيضًا يشمل التأمينات والكفالات إذ كانت موجودة. وهذا تطبيق خالص لنص المادة 291 من قانون الموجبات والعقود الذي يفيد بأن “سقوط الموجب الأصلي يؤدي الى سقوط الموجبات الفرعية والتأمينات المنقولة التي كانت مختصة بالدين. وينشأ عنه حق محو القيود المختصة بالتأمينات غير المنقولة”. ما يعني أن قبول الدائن يسقط الدين وتوابعه وملحقاته من فوائد ونفقات وتأمينات وتبرأ أيضًا ذمة الكفيل الذي يكون ضامنًا للدين ويرفع الحجز عن الأموال إذا كان الدائن قد اثقل هذه الأموال بحجوزات أكانت إحتياطية أم تنفيذية وذلك منذ تاريخ العرض والإيداع. مع التذكير دائما الى انه لترتب هذه النتائج يجب حتما ان يكون العرض منطبقا على الشروط القانونية المنصوص عنها في المادة 822 من قانون اصول المحاكمات المدنية .
وكما ان المدين يمكنه ان يرجع عن عرضه فإنه قد تقتضي مصلحة الدائن بالرجوع عن قراره بالقبول (طبعاً قبل أن يستلم الشيء المودع). فما هو اذا” مصير المدين فيما لو رفض الدائن العرض بعد ان أعرب عن قبوله؟
قلنا أنه من أثار قبول الدائن للعرض المقدم من المدين أن تبرأ ذمة هذا الأخير وينقضي الدين المتوجب عليه مع ملحقاته من تاريخ العرض والإيداع. فإذا عاد الدائن ورفض العرض بعد ان يكون قد قبله، فإن الدين الذي إنقضى مع القبول يبقى منقضياً وذمة المدين تبقى مبرأة ويكون للمدين أن يلزم الدائن بإستلام الشيء او المبلغ المودع إذ لا يمكن وضع المدين تحت أهواء ومزاجيات الدائن الذي يكون بقبوله قد أوصل المدين إلى ما كان يطمح إليه من خلال عرضه فلا يسعه الرفض بعد ذلك كون القبول قد أنتج آثاره التي تحدثنا عنها سابقاً.
واذا كان رفض الدائن لعرض المدين بعد ان يكون قد قبله لا يغير شيئا في النتيجة بحيث تبقى ذمة المدين مبرأة، فهل إن قبول العرض بعد رفضه من شأنه ان يولد هذه النتيجة عينها؟
في الأصل، إن رفض الدائن عرض المدين من شأنه ان يولد بعض الاثار التي سنتكلم عنها بالتفصيل لاحقا (في الفقرة الثانية من الفصل الثاني). ومن بين هذه الاثار وجوب تقدم المدين، وفقا للفقرة الاولى من المادة 824 أ.م.م.، بدعوى لاثبات صحة العرض والايداع اللذين تقدم بهما وجواز تقدم الدائن، وفقا للفقرة نفسها، بدعوى لاثبات بطلان العرض والايداع. وبالتالي، يكون على الدائن والمدين إنتظار نتيجة الدعوى لكي يبنى على الشيء مقتضاه. فإمّا أن يصدر الحكم بصحة العرض والإيداع ويكون من شأن ذلك تبرئة ذمة المدين وإمّا يصدر الحكم باعتبار أن العرض باطل وتعود الحالة إلى ما كانت عليه بين الفريقين قبل التقدم بالعرض والإيداع.
أمّا وقبل صدور الحكم ببطلان العرض أو بصحته، او حتى قبل ان يتقدم المدين بدعوى اثبات صحة العرض والايداع او الدائن بدعوى لاثبات بطلانهما، فإن قبول الدائن بالعرض والايداع بعد ان يكون قد رفضه ينتج نفس الاثار التي ينتجها قبوله فيما لو صدر عنه منذ البداية. وهذا ما أجمع عليه الفقه والإجتهاد بقولهما أن إبراء المدين إبراءاً نهائياً قاطعاً لا يترتب إلاّ منذ قبول الدائن بالإيداع أو منذ صدور حكم يقرر صحة الإيداع . مما يعني أن قبول الدائن ولو متأخرا ينتج جميع اثار القبول ومن بينها ذلك الذي يبرئ ذمة المدين من الدين المتوجب للدائن. وبالتالي إذا رفض الدائن العرض او كانت الدعوى قد سلكت طريقها، فإن قبول الدائن وقبضه ما أودعه المدين يؤدي إلى الاعتداد بهذا القبول مع ما ينتجه من اثار. وبذلك يكون الهدف الكامن وراء العرض والايداع والمتمثل بابراء ذمة المدين قد تحقق طالما ان هذا المدين يريد ابراء ذمته والتقت معه ارادة الدائن بالقبول. وقد قضي بأنه بعد صدور قبول الدائن وقبضه للمبلغ المودع فإنه “يقتضي تعديل قرار الحجز الاحتياطي” . وهذا مؤشر واضح على انه اذا كان من نتيجة قبول الدائن بالعرض والايداع ان يعدل او يلغى قرار قضائي، فإن سقوط الدعوى الرامية الى صحة او بطلان العرض يصبح حتميا ونتيجة لازمة لهذا القبول. مع الاشارة الى ان تصرّف الدائن على هذا النحو وقبوله بقبض المبلغ المودع يشكل تنازلاً ضمنياً عن الدعوى الرامية إلى بطلان العرض كون القبول هو عمل إرادي صادرعن الدائن ومن شأنه إستيفاء الدين وإبراء ذمة المدين.

الفقرة الثانية – رفض الدائن عرض المدين
بعد ان يقدم المدين عرضه للدائن، قد يسقط الدين بقبول الدائن وهذا يشكل اولى الاحتمالات. غير ان هناك احتمال آخر قد يأتي الدائن على تحقيقه ويتمثل برفضه للعرض المقدم من المدين. ولن نتوسع في مسار الرفض إذ ان رفض الدائن يمر بنفس المراحل التي مر بها القبول والتي وردت في الفقرة الاولى من المادة 823 أ.م.م. التي الزمت الدائن باتخاذ موقفا بقبول العرض او رفضه سواء بتصريح يدونه على وثيقة تبليغه او بتصريح يقدمه الى الكاتب العدل خلال ثمان واربعين ساعة على الاكثر من تاريخ تبلغه …”. ما يعني ان الرفض كالقبول يمكن ان يأتي سريعا ويدون على وثيقة التبليغ عند تبلغ الدائن بالعرض او قد يأتي لاحقا خلال ثمانية واربعين ساعة تلي التبليغ. الا ان ما يتميز به القبول عن الرفض هو بالاثار المترتبة على هذا الاخير (البند الاول) اضافة الى وجود حالات خاصة يتذرع بها الدائن لرفض عرض المدين (البند الثاني).

البند الاول – الاثار المترتبة على الرفض
اختلف قانون الموجبات والعقود وقانون أصول المحاكمات المدنية حول الأثار المترتبة على رفض الدائن للعرض المقدم إليه من المدين. فبينما تنص المادة 294 م.ع على أن الدائن الذي يرفض عرض المدين دون سبب مشروع، تلقى على عاتقه كل تبعات هذا الرفض من تحمّل خطر هلاك الشيء أو تعيبه وإنقطاع الفوائد عن الدين وإبراء ذمة المدين والأهم أنه يحق للمدين إيداع الشيء المعروض وتخلّصه من أعبائه، جاءت أحكام قانون أصول المحاكمات المدنية التي تدور حول رفض الدائن للعرض لتشمل الأحكام الواردة في المادة 294 وتنص أيضًا على أحكام أخرى من شأنها أن تنتج عن رفض الدائن للعرض.
وبالفعل، نصت المادة 823 أ.م.م. على أولى نتائج الرفض بقولها أنه في حال رفض الدائن العرض، على الكاتب العدل أن يبلغ ذلك الى المدين الذي تقدم بالعرض. والجدير ذكره أن رفض الدائن للعرض، كما قبوله، يكون من خلال التصريح على وثيقة التبليغ بأنه يرفض العرض أو تقديم تصريح لاحق الى الكاتب العدل خلال ثمانية وأربعون ساعة تلي تبليغه يعبّر فيه عن رفضه لهذا العرض.
وقد يكون من المفيد تبليغ المدين هذا الرفض إذ أن القانون ألقى على عاتقه عدة أمور منها ملزمة ومنها غير ملزمة. بالنسبة للامور الغير ملزمة، فإنها وردت في الفقرة الثالثة من المادة 823 التي تجيز للمدين اللجوء الى قاضي الامور المستعجلة خلال ثمانية واربعون ساعة تلي تبليغه رفض الدائن من اجل إما الترخيص له بايداع الشيء الغير موجود في حيازة الكاتب العدل في المكان الذي يعينه القاضي واما وضع هذا الشيء تحت الحراسة. وقد تكلمنا عن هذه الامور في البند الثاني من الفقرة الثانية في الفصل الاول فلا داعي اذا” لاعادة شرحها هنا.
غير أنه إذا كانت المادة 823 المذكورة قد خيّرت المدين بين إيداع الشيء أم عدم إيداعه، فإن الفقرة الأولى من المادة 824 ألقت موجبًا على عاتق هذا المدين بأن ألزمته بإثبات صحة العرض والإيداع خلال عشرة أيام تلي تبلغه رفض الدائن من خلال دعوى يتقدم بها الى المحكمة تحت طائلة اسقاط أثار معاملة العرض والايداع . وفي هذا الاطار قضي بأن مهلة العشرة ايام الواردة في المادة 824 أ.م.م. المخصصة للمدين كي يقيم دعوى اثبات صحة عرضه وايداعه هي مهلة اسقاط وان عدم التقيد بهذه المهلة من شأنه ان يسقط الحق باقامة الدعوى . ومن المهم الاشارة هنا الى ان الفقرة الاولى من المادة 823 من قانون اصول المحاكمات المدنية فرضت على الكاتب العدل الذي نظم العرض والايداع ان يبلغ المدين رفض الدائن بدليل ورود عبارة “وفي حال رفض العرض على الكاتب العدل ان يبلغ ذلك الى المدين”. فلا شك بأن ذلك يعني بأن دور الكاتب العدل لا يقتصر فقط على تنظيم معاملة العرض والايداع بل عليه ايضا ابلاغ المدين بكل المستجدات حول المعاملة التي نظمها. وبالتالي يمكن القول بأنه اصبح لزاما على الكاتب العدل ان يأخذ على عاتقه، دون سواه وبالأخص المدين شخصيا، مهمة ارسال العرض والايداع الى الدائن على أن يتلقى هو حصرا” جواب هذا الاخير لكي يقوم بنفسه بإبلاغ المدين في حال رفض الدائن هذا العرض. وبذلك يكون تاريخ تبليغ المدين رفض الدائن عبر الكاتب العدل هو الذي يعتد به فقط لانطلاق مهلة العشرة ايام المنصوص عنها في الفقرة الاولى من المادة 824 أ.م.م. التي يكون على المدين خلالها تقديم دعوى صحة العرض والايداع تحت طائلة سقوط المعاملة عند تجاوز هذه المهلة .وليس ما يمنع المدين من اقامة دعوى اثبات صحة العرض والايداع قبل ان يتبلغ رفض الدائن فالمهم هو ان لا تقام الدعوى بعد انقضاء المهلة التي تعتبر مهلة اسقاط إذ يعود للمدين صيانة حقوقه باقامة الدعوى حتى قبل سريان المهلة . مع الاشارة الى انه وفقا للمادة 824 أ.م.م. فإنه يمكن للمدين ان يثبت صحة العرض والايداع بطلب طارئ يقدمه الى المحكمة في اطار دعوى اصلية كانت قد اقيمت سابقا. وهذه الحالة تحصل عادة عندما يتقدم الدائن بدعوى بوجه مدينه من اجل تحصيل دينه فيسارع المدين بعد تقديم هذه الدعوى ويجري العرض والايداع للمبالغ التي يطالب بها الدائن ويبلغه اليه. فيتقدم عندها المدين بطلب طارئ في هذه الدعوى ويكون موضوع هذا الطلب اثبات صحة العرض والايداع الذي اجراه. وغني عن القول بأن البت بالطلب الاصلي من شأنه ان يؤثر على الطلب الطارئ. فإذا حكم بعدم صحة الطلب الاصلي فإن الطلب الطارئ المختص باثبات صحة العرض والايداع يكون ساقطا حكما كون الموضوع الذي ارتكز عليه العرض والايداع قد سقط . ومن الملاحظ إن هذه الدعوى، سواء قدمت بشكل اصلي او بطلب طارئ، لا تقدّم فقط من أجل إثبات صحة العرض بل أيضاً من اجل إثبات صحة الإيداع. ما يعني ان الإيداع يجب أن يكون حاصلاً قبل التقدم بهذه الدعوى. وكنّا قد أشرنا إلى انه وفقاً للفقرة الثالثة من المادة 823 أ.م.م.، يجوز للمدين تقديم طلب لقاضي الأمور المستعجلة لإيداع الشيء الممكن نقله إلى مكان يعينه القاضي أو وضعه تحت الحراسة إذا لم يكن ممكن نقله، إلاّ أنه وفقاً لأحكام الفقرة الأولى من المادة 824 فإن المدين لم يعد يملك هذا الخيار بين الإيداع أو عدمه إنما هو مجبر على إيداع الشيء بدليل ورود عبارة “على المدين” وذلك تحت طائلة سقوط أثار العرض والإيداع. فتكون إذاً الفقرة الثالثة من المادة 823 قد تلاشت أمام الفقرة الأولى من المادة 824 وأصبحت لا لزوم لها طالما ان المدين عليه إثبات صحة العرض والإيداع اللذين أجراهما تحت طائلة عدم إنتاج العرض والإيداع أي أثر. أما بالنسبة للشيء الذي لا يمكن نقله، فإن الحراسة التي تتحدث عنها الفقرة الثالثة من المادة 823 والتي يطلبها المدين من قاضي الامور المستعجلة، فانها تكون موازية للإيداع الذي ذكرته الفقرة الأولى في المادة 824 وبالتالي يكون على المدين التقدم بدعوى لإثبات العرض والإيداع.
وإذا كان المدين، وفق الفقرة الأولى من المادة 824 أ.م.م. ملزماً بإثبات صحة العرض والإيداع، فإن هذه الفقرة أعطت للدائن الحق لإثبات بطلان العرض والإيداع وعدم مطابقته للشروط التي يجب أن تتوفر فيهما. وللدائن في هذه الحالة كامل الحرية في التقدم بهذه الدعوى أو العدول عنها وإذا اراد اقامتها فيكون ذلك خلال عشرة أيام من تاريخ رفضه للعرض والإيداع اللذين تقدم بهما المدين. أما اذا لم يقيم هذه الدعوى خلال هذه المهلة فإن حقه بالمطالبة ببطلان العرض والايداع يسقط كون المهلة هنا، هي كمهلة اقامة دعوى اثبات صحة العرض، هي مهلة اسقاط انما دون ان تترتب على عدم التقدم بهذه الدعوى اي نتائج لناحية سقوط مفاعيل الرفض كون القانون أجاز له ولم يلزمه بهذه الدعوى بل الزم فقط المدين بدعوى اثبات صحة العرض والايداع تحت طائلة سقوط مفاعيل العرض والايداع . وفي مطلق الاحوال، ان عدم تقديم الدائن دعوى بطلان العرض والايداع لا يحيي مفاعيل العرض والايداع الصادر عن المدين الذي لم يقيم دعوى اثبات صحتهما خلال المهلة القانونية بعد ان رفضه الدائن. ولا بد من الاشارة هنا الى ان الرفض كالقبول يمكن ان يكون ضمنيا وفي هذه الحالة يجب ان لا يكون هناك اي التباس او تأويل من شأنه تفسير تصرف الدائن تفسيرا خاطئ”. فقد اعتبر الاجتهاد ان الاعتراض على العرض والايداع لا يعود ضرورياً في ظل وجود دعوى عالقة بين الفريقين وأن متابعتها من قبل الجهة المميز ضدها، تعبر بالنتيجة عن رفضها الايداع. فعندما يقدم المدين عرضا للدائن ويتقدم هذا الاخير بدعوى تنفيذ ضد المدين فإن ذلك يشكل دون ادنى شك رفضا لعرض المدين حتى وان لم يكن هذا الرفض صريحا. فبدلا من ان يتقدم الدائن بدعوى بطلان العرض والايداع، اختار المدين ان يتقدم بدعوى تنفيذ سند ضد المدين وهذا ما يعتبر رفضا ضمنيا للعرض والايداع .
أمّا عن الأصول الواجب إتباعها في الدعاوى المتعلقة بالعرض والإيداع أكانت دعوى إثبات صحة العرض والإيداع أم دعوى بطلانها، فإن الفقرة الثانية من المادة 824 أ.م.م واضحة إذ نصّت على أن هاتين الدعويين تقدمان وفق القواعد الموضوعة لإقامة الدعاوى ما يعني أنه يجب العودة إلى الأصول المقررة في قانون أصول المحاكمات المدنية.
غير أن بدء مهلة تقديم المدين لدعوى صحة العرض والإيداع تختلف عن بدء مهلة الدائن لتقديم دعوى إثبات بطلانهما إذ نصت المادة 824 أ.م.م. على مهلة عشرة أيام وهذه المهلة هي نفسها للدائن كما للمدين الا انها تبدأ بالنسبة للدائن منذ إعلان رفضه حتى وإن لم يتبلغه بعد المدين في حين تبدأ مهلة العشرة أيام بالنسبة لهذا الأخير منذ تبلغه رفض الدائن. وقد رأينا ان المدين الذي عليه إثبات صحة العرض والإيداع، بات ملزماً بتطبيق أحكام الفقرة الثالثة من المادة 823 كونه عليه إثبات صحة الإيداع فكيف يثبت صحة الإيداع إذا إختار عدم إيداع الشيء. ما يعني ان المدين أصبح ملزماً بالتوجه إلى قاضي الأمور المستعجلة خلال يومين من تاريخ رفض الدائن للعرض. وإذا كان القانون قد منح المدين مهلة يومين لتقديم الطلب إلى قاضي الأمور المستعجلة، فإن بدء هذه المهلة يتقاطع مع مهلة العشرة أيام لتقديم دعوى إثبات صحة العرض والايداع. إنما وكما أوردنا أعلاه، ليس بإستطاعة المدين التقدّم بدعوى إثبات صحة العرض والإيداع ما لم يكن قد أودع الشيء المعروض وبالتالي يكون على المدين الإسراع والتقدّم بطلب الإيداع لكي يتمكن من تقديم دعوى إثبات صحة العرض والإيداع خلال مهلة العشرة أيام المنصوص عنها في المادة 824. مع التذكير دائما بأن أحكام الفقرة الثالثة من المادة 823 تخص فقط الأشياء التي هي بغير حيازة الكاتب العدل أو التي لا يمكن نقلها فيما تطبق على النقود أحكام المادة 822 التي تلزم المدين بإيداعها عند تنظيم العرض وفق الفقرة الثالثة من المادة 823.
ويعود الإختصاص في دعاوى إثبات صحة العرض والإيداع أو بطلانها إلى الغرفة الإبتدائية أو إلى القاضي المنفرد في مقام المدعى عليه حسب قيمة الدين أو الشيء المنوي عرضه وإيداعه . ولكن ماذا لو تقدم المدين بدعوى صحة العرض والإيداع امام محكمة مقام الدائن وتقدم الدائن أيضاً بدعوى بطلان العرض والإيداع امام محكمة مقام المدين؟ في هذه الحالة، نكون أمام حالة تلازم بين الدعويين فيدلى بدفع التلازم أمام المحكمة التي اقيمت امامها الدعوى الثانية والتي يجب عليها رفع يدها عنها وإحالتها إلى المحكمة المقامة أمامها الدعوى الأولى. هذا مع الإشارة إلى أن الدائن غير ملزم بتقديم دعوى بطلان العرض والإيداع إنما كما قلنا فإن المادة 824 أ.م.م. أعطته الخيار في إقامة هذه الدعوى أم عدم إقامتها.
وبعد اقامة الدعاوى وفقا للأصول، فإن من نتائج ذلك صدور حكم عن المحكمة. وقد يكون هذا الحكم لمصلحة الدائن كما قد يكون لمصلحة المدين. فإذا صدر الحكم لمصلحة الدائن وقضى ببطلان العرض والإيداع فإن من شان ذلك أن ينهي العرض وتعود الحالة إلى ما كانت عليه بين الدائن والمدين وتبقى الديون مترتبة بذمة المدين. اما إذا صدر الحكم بإعلان صحة العرض والإيداع فإن ذلك يرتب عدة نتائج لعل ابرزها الاقرار بتوفر جميع الشروط المطلوبة لصحة هذا العرض. بمعنى ادق، عندما يصدر حكما يقضي بصحة العرض فإن المحكمة تقر بأن هذا العرض تنطبق عليه كافة الشروط الواجب توافرها المنصوص عليها في المادة 822 من قانون اصول المحاكمات المدنية .
والى جانب الاقرار بتوفر جميع الشروط، فإن المادة 825 أ.م.م. ذكرت الاثار التي تتولد عن اعلان صحة العرض والايداع. أولى هذه الاثار إبراء ذمة المدين بمفعول رجعي من تاريخ العرض والإيداع. وبذلك يمكن القول بأن المدين كأنه أوفى الدين منذ لحظة تقديم العرض والإيداع إلى الدائن. وفي هذا الاطار، قضي بأن مجرد حصول عملية العرض والايداع من دون اتباعها بدعوى تفصل في صحتها ليس من شأنه ابراء ذمة المدين ما لم يصدر حكم عن المحكمة يعلن صحة عملية العرض والايداع. فمن المهم اذا ان يتبع رفض الدائن بدعوى تفصل في صحة العرض والايداع والا لا يكون لهما اي اثر لا سيما ابراء ذمة المدين ما لم يصدر حكم عن المحكمة يعلن صحة عملية العرض . ما يعني تاليا ان عملية العرض والايداع تجعل ذمة المدين مبرأة انما هذا الابراء يبقى منقوصا وغير نهائي طالما انه لم يكتمل بصدور حكم يقضي بصحة العرض والايداع الذي اجراه المدين .
إضافة إلى ذلك، فإن من اثار صدور حكم بصحة العرض والايداع قطع سريان الفوائد من تاريخ تقديم العرض فيما يبقى على المدين دفع الفوائد المترتبة قبل تقديم العرض. وقد قضي في هذا الاطار بأن القانون اللبناني يجيز للمدين عرض المبلغ للايفاء ويرتب على الرفض غير المشروع للايفاء انقطاع حكم الفائدة على الدين . كما وأن الحكم القاضي بصحة العرض والإيداع يؤدي إلى نقل مخاطر وأعباء الشيء المعروض من ذمة المدين إلى الدائن ويصبح هذا الأخير مسؤولاً عن كل تبعات التأخير في إستلام الشيء المعروض والمودع. كما وانه وفقا لاحكام المادة 291 من قانون الموجبات والعقود، فإن الحجز والتأمين يرفعان عن الشيء موضوع الموجب وايضا تبرأ ذمم الكفيل والمدين المتضامن مع المدين الذي قدم العرض. وبالتالي يمكن القول أن الحكم الذي يصدر بصحة العرض والإيداع يكون معلنًا لإبراء ذمة المدين مثلما نصّت على ذلك المادة 825 أ.م.م بأن أعلنت صراحة أن “الحكم القاضي بصحة العرض والإيداع يعلن براءة ذمة المدين من تاريخ العرض والإيداع”. ما يعني ان اثار صدور حكم بصحة العرض والايداع هي نفسها الاثار التي تنتج عن قبول الدائن بالعرض المقدم من المدين. مع الإشارة الى أنه إذا لم يتقدم الدائن بدعوى لبطلان العرض والإيداع وصدر حكم قضى ببطلانهما على إثر الدعوى التي تقدم بها المدين، فإن هذا الحكم ينتج نفس الأثار التي كانت ستنتج فيما لو تقدم الدائن بدعوى بطلان العرض والإيداع.

البند الثاني – الحالات الخاصة للرفض
إذا كان يحق للمدين الذي يرغب بإبراء ذمته أن يعرض على دائنه الشيء أو المبلغ الذي يعتبر نفسه مديناً به، وإذا كان الدائن لا يلزم بقبول شيء غير الذي هو دائناً به، فقد تثار أحياناً مسألة عرض الإيفاء بالعملة الوطنية لدين معقود بالعملة الأجنبية. وبالتالي إن السؤالين اللذين يطرحا هنا هما التاليين: هل يمكن للمدين بدين معقود بالعملة الاجنبية ومشروط ايفاؤه ايضا بهذه العملة ان يعرض إيفاؤه بالعملة الوطنية؟ وبالتالي هل يمكن للدائن رفض هذا العرض وإعتباره باطلاً لهذه العلّة؟
للاجابة على هذين السؤالين، يقتضي الرجوع إلى النصوص والأحكام التي ترعى قوة العملة الوطنية وإعتبارها وسيلة إيفاء إجبارية.
في الواقع نصت المادة 301 من قانون الموجبات والعقود على أنه ” عندما يكون الدين مبلغاً من النقود، يجب إيفاؤه من عملة البلاد”.
إنطلاقاً من هذا النص، يتبيّن أنه لا يفّرق بين أن يكون الدين معقوداً بالعملة الاجنبية أو بالعملة الوطنية. والواضح إن ما تقصده المادة 301 هو إيفاء الدين المعقود بالعملة الأجنبية. وقد جاءت عبارة “يجب إيفاؤه” للدلالة على إلزامية إستعمال العملة الوطنية لإيفاء هذا الدين المتفق عليه بالعملة الأجنبية ما يعني أن الدائن لا يمكنه رفض هذا الإيفاء حتى وإن إتفق مع المدين على تسديده بالعملة الأجنبية.
وقد أتت المواد 7 و70 و192 من قانون النقد والتسليف لتؤكد على ذلك. ففي حين نصت المادة السابعة على ان “للأوراق النقدية التي تساوي قيمتها الخمسماية ليرة وما فوق قوة إبرائية غير محدودة في أراضي الجمهورية اللبنانية”،جاءت المادة 70 لتحدد مهمات مصرف لبنان وعلى رأسها المحافظة على سلامة النقد اللبناني والمادة 192 لتطبق العقوبات المنصوص عليها في المادة 319 من قانون العقوبات على من يمتنع عن قبول العملة اللبنانية بالشروط المحددة في المادتين 7 و 8 من قانون النقد والتسليف. ما يعني تاليا أن العملة الوطنية تشكل وسيلة إيفاء لا يمكن رفضها حتى وإن اشترط إيفاء الدين بالعملة الأجنبية أو حتى وإن نص الاتفاق على أن الإيفاء لا يكون إلا بالعملة الأجنبية.
ولا شك ان هدف المشترع من وراء هذه النصوص الإلزامية هو المحافظة على الثقة بالنقد الوطني ودعم مركزه أمام العملات الأجنبية. فهذه المواد تعتبر من النظام العام الحامي للمالية العامة المتمثلة بالنقد الرسمي وضرورة الإستمرار بالتعامل بهذا النقد للحفاظ على الأمن الاقتصادي والإجتماعي والمالي وإلا تفقد العملة الرسمية الوطنية من مكانتها وتصبح في مكان يتجنبه الأفراد نتيجة ضعفها أمام بقية العملات. فجاءت هذه النصوص الإلزامية، أكان في قانون الموجبات والعقود أم في قانون النقد والتسليف، لتلزم على الإيفاء بالنقد الوطني من جهة وعلى معاقبة من يرفض التعامل بهذا النقد من جهة أخرى. فتكون الأحكام المنصوص عليها لهذه الجهة أحكامًا تتعلق بالنظام العام المالي ولا يجوز للفرقاء الاتفاق في العقد على ما يخالفه أو حتى مخالفته عبر رفض قبول التعامل بهذه العملة الوطنية تحت طائلة توقيع الجزاءات المنصوص عليها في القوانين المرعية الإجراء. وبالتالي يصح القول أنه بإمكان المدين، إذا كان يشترط أيفاء دينه المستحق بالعملة الأجنبية، تقديم عرض بالمبلغ المستحق وإيداعه بالعملة الوطنية بكمية تتناسب مع سعر الصرف. وهذا ما سار عليه الاجتهاد بقوله بأنه لا يجوز للدائن رفض التسديد الحاصل بالعملة الوطنية لدين معقود بالعملة الاجنبية ويصبح هذا الايفاء مبرئاً للذمة وان وجد اتفاق بينه وبين المدين على الايفاء بالعملة الاجنبية .
إلا أنه قد توضع مسألة سعر الصرف على بساط البحث خصوصًا عند تدني قيمة العملة الوطنية مقابل العملة الأجنبية وتصبح هذه الأخيرة نادرة الوجود وصعبة المنال مثلما حصل في لبنان إبّان ما حصل بعد 17 تشرين الاول 2019 حيث بدأت تتقلّص شيئًا فشيئًا العملات الأجنبية في لبنان لا بل أصبح من النادر إيجادها إلا في مكان واحد سمِّيَ بالسوق السوداء حيث وصل سعر الدولار الواحد الى حدود الثمانية ألاف ليرة. وازاء ما حصل، بات المدينون كما الدائنون في حيرة من أمرهم وبدأت تدور الأسئلة حول كيفية إيفاء الديون المشترط إيفاؤها بالعملة الأجنبية وما إذا كان يمكن الإيفاء بالعملة الوطنية لهذه الديون وبأي سعر صرف خصوصًا وأنه ظهر العديد من أسعار الصرف. فأضحت القروض المصرفية توفى على سعر 1515 ليرة وهو السعر الرسمي المحدد من مصرف لبنان بينما السحوبات من المصارف تحددت على سعر 3900 ليرة للدولار الواحد ناهيك عن سعر السوق السوداء الذي يعلو وينخفض تبعًا لمزاجيات العرض والطلب.
وإذا كان أمر إيفاء الدين المشروط بالعملة الأجنبية قد إنحسم لصالح الإيفاء بالعملة الوطنية كون النصوص الواردة في التشريع اللبناني تتعلق بالنظام العام كما أشرنا سابقًا، فإن أمر البت بسعر صرف الديون المتوجبة بالعملة الأجنبية أصبح في عهدة القضاء ولا سيّما وأن التشريعات اللبنانية المتعلقة بهذا الموضوع قليلة جدًا لا بل غير موجودة بإستثناء تعميم واحد صادر عن مصرف لبنان وتم بموجبه تحديد السعر الصرف الرسمي للدولار بألف وخمسماية ليرة لبنانية (1500). وقد توالت الأحكام والقرارات القضائية التي اعتبر البعض منها أنه يجب رد طلب رفع الحجز الإحتياطي لعدم كفاية الضمانة المقدمة والمحررة بالعملة الوطنية على سعر الصرف الرسمي الثابت أي حوالي 1500 ليرة لبنانية لكل دولار بينما اعتبر البعض الأخر أنه لا يوجد سعر صرف قانوني أو غير سعر الصرف الرسمي المعتمد حاليًا (أي 1515 ليرة) وأنه يجب إعتماد هذا السعر عند إيفاء الديون المعقودة بالعملة الأجنبية .
وإزاء المناوشات التي تحصل في المحاكم وفي ظل التخبط بينها وعدم تمكنها من الوصول الى إجتهاد موحد بسبب محاولة الحفاظ من جهة على مصالح المدين ومن جهة أخرى على مصالح الدائن، فقد برز تطور لافت على صعيد تحديد العملة التي على أساسها يتم إيفاء الديون المعقودة بالعملة الأجنبية والمشترط إيفاؤها بهذه العملة. هذا التطور تمثل بصدور تعميم عن حاكم مصرف لبنان بتاريخ 26 أب 2020 حمل الرقم 568 وقضى بإلزام المدين صاحب القرض التجاري بتسديد دينه بعملة القرض إذا كان عقد القرض ينص على ذلك. وبالطبع إن هذا التعميم يستهدف المقترضين بالعملة الأجنبية لقروض تجارية والتي تبقى خاضعة لشروط العقد بين الدائن (المصرف أو المؤسسة المالية) والمدين. غير أن هذا التعميم الصادر عن حاكم مصرف لبنان دونه نتائج إقتصادية وقانونية جمّة. فالنتائج الاقتصادية نترك أمر بيانها لأصحاب الإختصاص الإقتصاديين بينما كقانونيين علينا التطرق الى قوة ومركز هذا التعميم بين مختلف القواعد الواردة في التشريعات اللبنانية لا سيّما لجهة النصوص التي تهم بحثنا.
ومن أجل ذلك، لا بد لنا من التوجه نحو مبدأ تسلسل القواعد والغوص في دراسته. وعلى هذا المبدأ اشارة المادة الثانية من قانون أصول المحاكمات المدنية التي نصت انه “على المحاكم أن تتقيد بمبدأ تسلسل القواعد”. وهذا يعني أنه في حال تزاحم قاعدتين قانونيتين، وجب إستبعاد القاعدة الأقل مرتبة لصالح القاعدة الأعلى منها. ومن المعروف أن القواعد القانونية لا تحتل كلها نفس المرتبة إنما هناك تراتبية وتسلسلية في الهرم الذي يتضمن هذه القواعد. ففي حين نجد أن الدستور يحتل أعلى الهرم، تأتي المعاهدات لتملىء المرتبة الثانية قبل القوانين التي تسبق المراسيم والتي تأتي بعدها القرارات والتعاميم الإدارية أكانت صادرة عن وزير معيّن أو عن موظف إداري.
ولا شك أن لهذه التراتبية بين القواعد غاية أساسية تتمثل بضرورة أن تكون كل قاعدة منها مطابقة للقاعدة التي تسبقها إذ لا يجوز مثلًا أن يأتي قانون مخالف لأحكام الدستور أو يتخذ موظفا مثلًا قرارًا أو تدبيرًا مخالفًا للقانون أو للمرسوم. وفي هذه الحالة الأخيرة يمكن اللجوء الى المراجع المختصة لإتخاذ التدابير اللازمة من أجل تصويب الأمور. فعلى سبيل المثال يمكن تقديم مراجعة أمام مجلس شورى الدولة للطعن بقانونية مرسوم ما أو قرار إداري أو تعميم إذا كان هذا المرسوم أو القرار أو التعميم متعارضًا مع أحكام قانون صادر عن السلطة التشريعية.
وفي هذا الإطار، لا بد من الإشارة الى أن تطبيق مبدأ تسلسل القواعد أمام المحاكم يختلف عن تطبيقه أمام المراجع الإدارية. فدون أدنى شك إن المقصود بالمادة الثانية من قانون أصول المحاكمات المدنية هو تطبيق تسلسل القواعد أمام المحاكم وهذا ما أشارت اليه صراحة عبارات هذه المادة. إلا أنه عند صدور قرار إداري معين، فإنه من الطبيعي أن يكون مصدّر القرار متنبهًا الى الأحكام التي تعلو قراره والتي على قراره إحترامها وعدم مخالفتها. أما إذا لم تتطابق أحكام القرار الصادر مع القواعد التي تعلوها فإنه يمكن الطعن بهذا القرار أمام مجلس شورى الدولة خلال مهلة معينة من قبل صاحب الصفة والمصلحة. وإذا لم يتم تقديم أي طعن خلال المدة المحددة فإن هذا القرار يصبح قرارًا إداريًا نافذًا ولا تقبل أي مراجعة قضائية ضده وفقًا للمادة 59 من نظام مجلس شورى الدولة ويصبح لهذا القرار القوة التنفيذية الملزمة ويطبق على أصحاب الشأن ولا يعود بمقدورهم الهروب من وقوعه عليهم.
غير أن هذه القوة الإدارية التي أصبح يتمتع بها القرار الإداري نتيجة لعدم الطعن به تتلاشى لا بل تختفي عند تنازع هذا القرار، امام المحاكم، مع قاعدة قانونية تعلوه أكانت هذه القاعدة مرسومًا أم قانونًا صادرًا عن السلطة التشريعية. فالتعميم رقم 568 الصادر عن حاكم مصرف لبنان يتمتع إذًا بالحصانة في الميدان المصرفي ما لم تندلع بينه وبين قاعدة قانونية أعلى منه أية إشتباكات أمام المحاكم. عندئذٍ يكون النصر حليف القاعدة الأعلى على حساب هذا التعميم.
وتطبيقًا لذلك، إذا تقدم المدين بعرض الى المصرف يعرض من خلاله إيفاء الدين بالعملة الوطنية، فإنه من المرجح أن يرفض الدائن هذا العرض إستنادًا الى أحكام التعميم رقم 568 التي تفرض على المدين بدين تجاري أن يسدد قرضه بالعملة الأجنبية إذا كان العقد ينص على ذلك. غير أنه إذا تقدم المدين بدعوى لإثبات صحة عرضه أمام المحاكم المختصة، فإن هذه الأخيرة تكون الى جانبه تطبيقًا لمبدأ تسلسل القواعد التي تنص على أنه في حال تعارض أحكام قانون مع أحكام تعميم فإن الغلبة تكون للأول على الثاني. وللتذكير أن أحكام القانون المشار إليها والتي تعلو على تعميم حاكم مصرف لبنان هي المادة 301 من قانون الموجبات والعقود التي تلزم بدفع الديون بالعملة الوطنية والمادتين 7 و192 من قانون النقد والتسليف التي تعطيان العملة الوطنية القوة الابرائية تحت طائلة العقوبات. اضافة الى المادة 70 من هذا القانون التي كما اشرنا حددت مهمات مصرف لبنان والتي من ابرزها المحافظة على سلامة النقد اللبناني. فكيف يصدر حاكم مصرف لبنان تعميما مخالفا لهذه المواد لا سيما المادة 70 التي تلزم بالمحافظة على سلامة النقد الوطني وعدم افقاد الثقة بها. مع الاشارة الى ان ما اتينا على ذكره وما اوردناه وطبقناه على التعميم رقم 568 يطبق ايضا على كل التعاميم والقرارات الصادرة عن حاكم مصرف لبنان ويكون لهذه التعاميم القوة الالزامية في المعاملات المصرفية انما لا وجود لهذه القوة امام المحاكم عند تعارض احكام هذه التعاميم مع احكام قواعد اعلى منها.